عدنان بن عبد الله القطان

2 ربيع الأول 1443 هـ – 8 أكتوبر 2021 م

——————————————————————–

الحمد لله هو الغنيّ وعبادُه الفقراء، وهو القويّ وخلقُه هم الضّعفاء، نحمده سبحانَه يقبَل التوبةَ عن عباده ويعفو عمَّن أساء، ونشكره بسط الرزقَ وأجزَل النعماء، ونشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الأسماء الحسنى، ونشهد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمَّداً عبد الله ورسوله، هو الأخشَى لربِّه والأتقى، أكثَرُ العباد ذِكراً وأصدقهم شكراً، صلى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، صدَقوا ما عاهَدوا الله عليه في السّراء والضّراء، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.

أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: قضيةٌ مألوفة، وظاهرةٌ في المُجتمعات معروفة، مُشكلةٌ في جميع الأُمم والأعصار، والحضارات والأمصار، مسألةٌ لا يخلو منها مُجتمع، ولا تنفَكُّ منها دولةٌ، مهما بلغَ تقدُّمُها وثراؤها، وحُسنُ إدارتها وسياساتها، مُشكلةٌ ذاتُ أبعاد اجتماعيةٍ، وامتداداتٍ سُلوكية، وجودها في أمةٍ أو دولةٍ أو وطن ليس مثلَبَةً ولا عيباً، ولكن نِسيانُ ذلك وإهمالُه، أو عدمُ النظر في أسبابه، والسعيِ في علاجه هو المَعيبُ وفيه المسؤولية؛ ذلكم: هو الفقرُ والفُقراء.

أيها الأخوة والأخوات في الله: من رواسِخِ ديننا وثوابتِه: أن لكل مُشكلةٍ حلاًّ، ولكل داءٍ دواءً؛ فالذي خلقَ الداءَ خلقَ الدواءَ، ومن قدَّرَ المرضَ قدَّرَ العلاجَ، فالمرضُ قدر الله، والعلاجُ والشفاءُ بقدر الله، وإذا كان الفقرُ قدراً وبلاءً فإن مُقاومته والسعيَ في الخلاص منه قدرٌ وعلاجٌ كذلك… والإسلامُ أقرَّ حقوقَ الفقراءِ وضمِنَها وحفِظَها وحماها، ووجَّه بالدفاع عنها منذ مايقارب خمسة عشر قرناً؛ صيانةً للمُجتمع، وحِفظًاً للأُسَر، وإشاعةً لروح الإخاء، وسلامةً للدين، واستقامةً للخُلُق.

عباد الله: الفقرُ في نظر الإسلام بلاءٌ ومُصيبةٌ، تعوَّذَ الدين منها، ووجَّهَ بالسعي للتخلُّص منها، ليس في مدحِ الفقر آيةٌ في كتاب الله، ولا حديثٌ صحيحٌ في سنة رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم ؛ بل لقد استعاذَ النبيُّ  صلى الله عليه وآله وسلم  من الفقر، وجعله قريناً للكُفر:فقال (اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ) و قال صلى الله عليه وسلم: (اللّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ، وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ) وأبو السبطين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (لو كان الفقرُ رجلاً لقتلتُه).

ونبَّه القرآنُ الكريمُ إلى أن الجوعَ عذابٌ ساقَه الله إلى بعض الأُمم الكافرةِ بنِعَمه: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) وفي المُقابِل؛ فقد امتنَّ الله تعالى على قُريشٍ، بأن أطعمَهم من جُوعٍ، وآمنَهم من خوفٍ.

وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجلَ ليُحرَمُ الرِّزقَ بالذنبِ يُصيبُه)، وفي المُقابِلِ كذلك – عباد الله – فإن الغِنَى نعمةٌ، يمُنُّ الله بها على من يشاء من عباده؛ بل لقد امتنَّ الله بذلك على حبيبه وخليله محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عزَّ شأنه : (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى)، ومحمدٌ  عليه الصلاة والسلام – لما سألَ ربَّه الهُدى والتُّقَى سألَ معه الغِنَى، فقال: (اللهم إني أسألُك الهُدى، والتُّقَى، والعفافَ، والغِنَى)… ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوفٍ مع صحابةٍ آخرين  رضي الله عنهم ، دعا لهم بالبركةِ في تجارتهم، ودعا لخادمه أنسٍ بن مالك رضي الله عنه  فقال: (اللهم كثِّر مالَه). وقال عليه الصلاة والسلام: (ما نفعَني مالٌ كمالِ أبي بكرٍ)وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألُك علماً نافعاً، ورِزقًاً طيِّباً، وعملاً صالحاً مُتقبَّلاً). وحسبُكم عباد الله قولُه عزَّ شأنه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً)

أيها الإخوة والأخوات في الله: إذا كان الأمرُ كذلك؛ فإن الفقرَ نعوذُ بالله منه : حالٌ يكون معها المرءُ عاجِزاً عن تلبيةِ حاجاته؛ من الغذاءِ، والكِساءِ، والدواءِ، والسكنِ، والتعليمِ، وفُرصِ العمل… الفقرُ: عدمُ وجود الدَّخْل أو نقص فيه، يعجَزُ معه الفقيرُ ومن يعول عن تحقيق مُتطلَّباته، من العيش اللائقِ بكرامةٍ وحُسن رعايةٍ… في حالة الفقرِ، لا يستطيعُ الفقيرُ القيامَ بمناشِطِ الحياة وحيويتها، ومن ثمَّ تبرُزُ صُورٌ من انتشار الأمراض، وسوء التغذية، والوفيات، ونقصِ التعليم وقلَّة فُرصه، واستخدام الأطفالِ..

نعم أيها الإخوة ؛ من حقِّ الفقيرِ أن يتهيَّأ له مُستوًى من المعيشةِ مُلائِمٌ لحاله، يُعينُه على أداء فرائضِ الله، ومطلوباتِ الشرع، وأعباءِ الحياة، ويَقيهِ من الفَاقَةِ والحِرمان.

أيها المسلمون: وأولُ ما يتوجَّهُ إليه النظرُ في حلِّ هذه المُشكلة وعلاجِها وتقليل آثارها، مما تُؤكِّدُه توجيهاتُ ديننا هو: مُطالبةُ كلِّ مسلمٍ قادرٍ، مُطالبَتُه بالعملِ، كما لا بُدَّ من إيجاد فُرص العمل؛ فالعملُ هو الوسيلةُ الأولى والسلاحُ المَضَّاءُ – بإذن الله وعونه – للقضاء على هذه المُشكلة. العملُ  بتوفيق الله  هو جالبُ المال، وعامِرُ الأرض. العملُ أساسُ الاقتصاد والإنتاج، والغِنَى، والعَفاف، والكفاف، والثَّراء. العملُ مجهودٌ شرعيٌّ كريمٌ يقومُ به العبدُ من عباد الله ليعمُرَ أرضَ الله الذي استُخِلِفَ في عِمارتها بنفسه ومع غيره… إن ديننا يُقرِّرُ ويُؤكِّد أن الله خلقَ الأرضَ، وبارَكَ فيها، وقدَّرَ فيها أقواتَها، وأودعَ في ظهرها وبطنها البركات المذخُورة، والخيرات المنشورة ما يكفي جميعَ عباد الله عيشاً هنيئاً مريئاً، (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) ، (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) وفي توجيهات الإسلام: أن هذه الخيرات والبركات والأرزاق المبثوثة، لا تُنالُ إلا بجُهدٍ يُبذَل، وعملٍ يُؤدَّى، وسعيٍ دءوب،يقول تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) ، ويقول سبحانه: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)،  ويقول: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) فمن سعَى وانتشرَ في الأرض، وضربَ في أرجائها مُبتغياً فضلَ الله ورِزقه؛ فإنه أهلٌ لنوالِهِ، ومن قعدَ وتكاسَلَ وتمنَّى الأماني؛ كان جديراً بأن يُحرَم، يقول صلى الله عليه وسلم: (لو أنَّكم توكَّلون على الله حقَّ توكُّله لرزَقَكم كما يرزقُ الطيرَ تغدُو خِماصاً، وترُوحُ بِطاناً).

أيها المؤمنون والمؤمنات: العملُ في الإسلام عبادةٌ، وما تعدَّى نفعُه وامتدَّ أثرُه فهو أفضلُ عند الله وأزكَى مما كان قاصِراً نفعُه على صاحبِه، وأبوابُ العملِ مفتوحةٌ في الإسلام على كل مصاريعها، يختارُ منها الراغبُ ما يُلائمُ قُدرتَه وكفاءَته وخبرتَه وموهبتَه؛ (فالتاجرُ الصدوقُ الأمينُ مع النبيين والصدِّيقين والشُّهداء)، (وما أكلَ أحدٌ طعاماً خيراً من أن يأكل من عملِ يده). (وما من مُسلمٍ يغرِسُ غرساً، أو يزرعُ زرعاً فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ إلا كان له به صدقة).بهذا صحت الأحاديث عن نبيكم صلى الله عليه وسلم.

وكان أصحابُ رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم يتَّجِرون في البرِّ والبحر، ويعملون في نخيلهم، والقدوةُ بهم. وسُئِلَ رسول الله  صلى الله عليه وسلم : أيُّ الكسبِ أفضلُ؟ قال: (عملُ الرجلِ بيده، وكلُّ بيعٍ مبرورٍ)

عباد الله: وهناك نظراتٌ حول العمل عند بعض الناس لا بُدَّ من الوقوف عندها ذاتُ مِساسٍ كبيرٍ في المُعالَجة: النظرةُ الأولى: موقفٌ قاصِرٌ ضارِبٌ جُذورَه منذ أيام الجاهليَّة الأولى، إلى عصرِنا هذا – مع الأسفِ الشديد- ذلك هو: الاستهانةُ ببعض أنواع الأعمال، ولا سيَّما عند العرب الذين يحتقِرون الأعمال اليدوية، وبعضَ الحِرَف والمِهَن، وهذا – وربِّكم – ليس من الدين، ولا من الأصالة، ولا العقل الراجِح. فدينُكم رفعَ قيمةَ العمل أيّاً كان نوعُه من وجوه الكسبِ الحلال، ونهَى وحذَّرَ وشنَّع على البِطالة والعجزِ والاتِّكال على الآخرين؛ فكلُّ كسبٍ حلالٍ فهو عملٌ شريفٌ عظيمٌ مأجورٌ صاحِبُه، وفي الحديثِ الصحيحِ قال عليه الصلاة والسلام: (لئن يأخُذ أحدُكم حبلَه، فيأتي بحزمةِ الحَطَبِ على ظهره، فيبيعُها، فيكُفُّ بها وجهَه خيرٌ من أن يسألَ الناسَ أعطَوه أو منَعُوه). نعم عباد الله هذه هي مهنةُ الاحتِطابِ؛ فهل تُرى أحداً يزدَريها بعد هذا التوجيهِ النبويِّ الكريمِ؟!

وأنبياءُ الله عليهم الصلاة والسلام، أفضلُ خلق الله ومُصطَفوه، كلُّهم قد رعَوا الغنَمَ، وفيهم: صانِعُ الحديد، والنجَّار، والخيَّاط، والبَزَّاز، والحرَّاث، وموسى – عليه السلام – رعَى الغنَمَ، وآجَر نفسَه عشر سنين عند الرجل الصالح، ونبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم  رعَى الغنمَ لقُريش، وسافَرَ بالتجارةِ. وأئمةُ الإسلام وعلماؤه كان فيهم البزَّارُ، والقفَّالُ، والحَذَّاء، والزَّجَّاج، والخرَّاز، والحطَّاب، والجَصَّاص، والخيَّاط، والخوَّاص، والقطَّان، والنَّدَّاف،والدِّبَاغ، وغيرُهم مما لا يكادُ يُستثنَى من مهنٍ مُباحةٍ. فكفى بذلك شرفًاً، وكفى بهم قُدوةً وأُسوةً.

النظرةُ الثانية: من الناسِ من يدَعُ العملَ لأنه لم يتيسَّر له في بلده وعند أهله.

سبحان الله عباد الله ، يُؤثِرُ البَطالَةَ والحاجةَ والحِرمان، على السعيِ والسَّعَة والعفافِ والغِنى؟! وما علِموا أن أرض الله واسِعةٌ، ورِزقَ الله في المشيِ في مناكبِها والضربِ في أرجائها، رِزقُ الله غيرُ محدودٍ بمكانٍ، ولا محصورٍ بجهةٍ… ونحن في هذه البلاد الطيبةِ المُبارَكةِ، يفِدُ إلينا إخوانٌ لنا من بلادٍ شقيقةٍ وصديقةٍ، وفَدوا إلينا من أصقاع الدنيا يُسهِمون معنا في بناء وطننا، وإعماره، ويسعَون في تحصيل أرزاقهم، ويكِدُّون من أجل أهلِيهم وأطفالِهم. فعلى الرَّحبِ والسَّعَة، وجزاهم الله خيراً.. ويعلمُ الله كم نسعَدُ حين نرى أبناءَنا يُشارِكونهم ويُنافِسُونهم التنافُسَ الشريفَ، (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً)، (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)

وسُئِلَت أمُّ مسلمة عن تفرُّق أولادها، فقالت بلغة الأم المُربِّية العاقلة الحكيمة: باعَدَت بينهم هِمَمُهم، باعَدَت بينهم هِمَمُهم.

النظرةُ الثالثة: فئاتُ من الناس يزهَدون في العمل، مُعتمِدين على الصدقات والزَّكَوات والتبرُّعات والأُعطِيات، وقد يتزَلَّفُ مُتزلِّفٌ لدى الأغنياء والوُجَهَاء والكُبَراء أشبَه بالمُتسوِّل والشَّحَّاذ لتكون يدُهُ هي السُّفْلَى، يستجْدِي المِنَحَ والعطايا، قويّاً قادراً لا تحلُّ له الصدقاتُ ولا الزَّكَوات. وبعدُ، عباد الله: فإن الإسلام لم يجعل لمُتبطِّلٍ كسولٍ حقًّاً في صدقات المُسلمين وإحسانهم، وما ذلك إلا ليدفعَ القادرين، للعمل والكسبِ الحلال، وما فتحَ عبدٌ على نفسهِ بابَ مسألةٍ، إلا فتحَ الله عليه بابَ فقرٍ.

اللهم إنا نعوذ بك من المأثَمِ والمغرَم، وغلبَةِ الدَّيْن وقهرِ الرجال، ونعوذُ بك من الفقر إلا إليك، اللهم أغنِنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سِواك، وأغنِنا بفضلِك عمَّن أغنيتَه عنَّا ياذا الجلال والإكرام.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهديِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيراً طيبًا مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: على الدولة في الإسلام مسؤوليتها في تهيئةِ فُرص العمل وطرق المعاشِ، وإيجاد الوسائل والتجهيزات والإعدادات، إن وظيفةَ الدولة في دين الإسلام وظيفةٌ إيجابيةٌ واسِعةٌ شاملةٌ، وظيفتُها: حمايةُ الذين يملِكون والذين لا يملِكون، حماية الأغنياء والفقراء على حد سواء، والمُجتمعُ في نظرِ الإسلام مترابط مُتماسِكٌ، جسدٌ واحدٌ إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسَدِ بالسَّهَر والحُمَّى. والعلاقةُ بين أفراده ومُؤسَّساته ليست علاقة إنتاج، أو علاقة عرضٍ وطلبٍ، إنها أعمقُ من ذلك وأقوى، إنها علاقةُ عقيدةٍ وفكرٍ وعاطفةٍ، ووحدة نظامٍ وشريعةٍ، جسدٌ واحدٌ يُمِدُّ ويستمِدُّ، وينفعُ وينتفِعُ. والدولةُ هي رأسُ المُجتمع، وهي جهازُه الذي يرعَى هذا الترابُط ويُحافِظُ عليه ويصُونُه، ويُؤكِّدُ لُحمتَه، ويرعَى ثمرَتَه، يقول (كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسئولٌ عن رعيتِهِ، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجلُ راعٍ في أهلِه وهو مسئولٌ عن رعيته…) الحديث.

وإنْ كان هناك من تنبيهٍ فهو أنَّ الحياةَ الإسلامية بمناشِطِها وأعمالها ووظائفها هي حياةٌ نظيفةٌ نزيهةٌ، لا تُقِرُّ العبَثَ، ولا تسمحُ بالفساد المالي والإداري والتحلُّل، وصرفِ المالِ والطاقات فيما لا يحِلُّ، لا ليلاً ولا نهاراً، لا في لهوٍ ولا مُجونٍ ولا سُوء استغلالٍ.

الدولةُ عباد الله في الإسلام يجب أن تُحقِّق العدلَ، وتدعُو إلى الخيرِ، وتتَّخِذُ من الأساليب والوسائل والإجراءات ما يُعالِجُ الفقرَ، ويُخفِّفُ آثارَه، ويضمنُ العيشَ الكريمَ لكلِّ مُحتاجٍ، ويُحقِّقُ التكافُل بين المُجتمع، وهي: وسائل وأساليب وإجراءاتٌ تختلفُ باختلاف الأزمِنةِ والبيئاتِ والأحوال والنوازِل والمُستجَدَّاتِ والموارِد.

وللاجتهاد وحُسن السياساتِ والإدارات في هذا مدخلٌ واسعٌ من الإعداد والتدريب، وتوجيه كل أحدٍ إلى ما يُحسِنُه، مع الأجرِ العادلِ وتشجيعِ المُحسِنِ ومُكافأته، ومُجازاة المُسيءِ ومُعاقبتِه، في سياساتٍ تصُونُ ثروات الأمة، وتزيدُ في إنتاجِها، وتُحسِّنُ مُستوى خدماتها، وتحفَظُ طاقاتها، وتُقدِّرُ جهودَ أبنائِها في مواهبهم، وقُدراتهم، وكفاءاتهم، ومُؤهِّلاتهم، في بناءٍ حضاريٍّ، وإدارةٍ مُنظَّمة، وسياساتٍ مُحكَمة؛ عِمارةً للأرض، وتطبيقًاً للشرع، وتوظيفًاً للطاقات في توازنٍ بين حقوق الإنسان وواجباته.

وهاهو وليُّ أمرنا في هذه البلاد المباركة، ملكنا حمد بن عيسى حفظه الله ورعاه، وأمدَّ في عُمره على طاعته، ومنذ أن تولى مقاليد الحكم؛ قد جعل الإصلاحَ شَعارَ حُكمه، وكان من أحد معالمِ مسيرته الإصلاحية الحضارية، اهتمامه بالفئات المحتاجة والفقيرة، فأسس لهذا الغرض المؤسسة الملكية للأعمال الإنسانية، التي تعنى بكفالة ورعاية الأيتام والأرامل والفقراء والمحتاجين. كما عمل على دعم  الجهات المعنية بمساعدة المحتاجين والفقراء لتحسين المستوى المعيشي لهم. كما أكد عزمه على مكافحة البطالة في البلاد، ووجه الجهات المعنية لتوفير فرص العمل للشباب. وواجبنا أن نشكر جلالته على ذلك، ف (لا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لا يَشْكُرُ النَّاسَ)

 وهاهو ولي عهده  رئيس وزرائه سلمان بن حمد حفظه الله، يعزز الرؤية الملكية،  ويجدد العهد في كل مناسبة، لمواصلة مسيرة التنمية والخير والعطاء، والسير على نهج جلالة الملك، لتحقيق المزيد من المكتسبات والانجازات على مختلف الصُعد، نحو كل ما فيه خير وصالح المملكة وشعبها الكريم. بارك الله في جهوهم وسدد خطاهم لما فيه خير البلاد والعباد. وإلى مزيد من الإصلاحات والإنجازات والعطاء والنماء من أجل عزة وتقدم ورفعة بلدنا الحبيب البحرين.

اللهم أحفظ بلادنا البحرين وأهلها وقادتها من كل سوء ومكروه، واجعله بلداً آمناً مطمئناً

سخاءً رخاءً، وأظله بظل الإسلام والإيمان، وبنعمة الأمن والأمان والاستقرار والوحدة، وألف بين قلوبنا رعاة ورعية، وأهد الجميع للتي هي أقوم… اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم.  وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم. ومستشاريهم، ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير..

اللهم إنا نعوذ بك مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِك، وَ تُحَوِّل عافَيَتَك، وَ فُجَاءَةِ نِقْمَتِك، وجميع سخطك.

اللهم ارفع وادفع عنا الوباء والغلا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.

اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم احفظهم من أعدائهم، واحقِن دماءَهم، واجمَع على الحقِّ والهُدى كلِمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرَخاءَ في ديارِهم، وأعِذهم مِن الشُّرور والفتَن ما ظهَرَ مِنها وما بطَن.

اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى، وأحفظ أهله، وأحفظ المصلين فيه،  واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين. اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ  وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

       خطبة جامع الفتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين